تعديل

الخميس، 9 أبريل 2015

العنصرية ما بين تاريخ أمريكي X وحسن ومرقص

لا شك بأن أفضل الأعمال الفنية هي تلك التي تطرح أسئلة لا إجابة لها، وفيلم American History X من إنتاج عام 1998، إخراج توني كاي Tony Kaye وبطولة إدوارد نورتون وإدوارد فيرلونج، في دورين من أروع ما قدما، هو خير دليل على العمل الفني الذي يطرح سؤالاً صادماً، ومصيرياً، ثم يتركك في قاعة السينما مذهولاً، تشاهد تتر النهاية بينما عقلك في صراع للبحث عن الإجابة، فقط لتعجز عن هذا، وترحل شاعراً بالبؤس، وربما بالدنس.
ليس فيلم American History X فيلماً عظيماً على مستوى التكنيك والإخراج، هو يعاني من عيوب الفيلم الأول المعتادة ـ هو فيلم مخرجه توني كاي الروائي الطويل الأول، بينما أخرج قبله عددًا من الفيديو كليبات الشهيرة لأسماء موسيقية لامعة مثل Red Hot Chili Peppers وJohnny Cash ـ كما أن الكليشيهات في التصوير وإخراج اللقطات بدا واضحاً في أكثر من مشهد، مثل وقوف ديريك بطل الفيلم عارياً أمام المرآة وقد سالت المياه على وجهه بعد اغتساله عند خروجه من السجن، ومشهد ركضه بالحركة البطيئة عند علمه بحدوث إطلاق نار في مدرسة أخيه، وتكرار استخدام الحركة البطيئة في عدة مشاهد أخرى، منها مشهد القبض على ديريك، والذي رفعه إلى مصاف الإبهار.
American History X
أداء إدوارد نورتون العبقري كان مرعبًا وأجاد فيه التعبير باستخدام لغة الجسد ونظرات العينين، وأضفت الوشوم العنصرية البغيضة التي تزين جسده على المشهد قشعريرة جمدت الدم في العروق، فديريك ـ الشخصية التي يلعبها نورتون ـ كان هو تجسيد للعنصرية في أوقح صورها. في بلادنا العربية، نواجه العنصرية كل يوم، وكل ساعة، بين فئات من البشر تعجز عن التعايش سوياً وتفتقر لأبسط قواعد المواطنة وتقبل الآخر، اعتدنا أن نجمل عيوبنا ونغلفها بأوراق ملونة، لئلا تظهر على حقيقتها القبيحة. لسنا ديريك، لا نرسم رموزا دينية ساخرة مما يؤمن به الآخر، لكننا حقاً في قرارة أنفسنا نكره اختلافاتنا بنفس الكيفية التي نكره بها كراهية الآخر لنا. “الكره حمل ثقيل على القلب” يختم الأخ الأصغر، داني، مقاله المدرسي بهذه المقولة، ملخصاً فيها العنصرية بأبسط حال.
الكره حمل ثقيل على القلب.
وهي حقيقة، فالشيوخ الذين يقتاتون على العنصرية، وداعمو التمييز الديني أو العرقي في مختلف أنحاء المعمورة، هم أكثر الناس ثقلاً، ربما ليس بالأمراض والعلل، لكن بالمال والنفوذ، وربما بالأجساد التي ساهموا في تكدسها في المقابر من الطرفين. الكراهية تقتل، ومن أبشع نتائجها هي العنصرية المضادة، والتي تصيب المقموع بالقوة المزيفة لحظة انتصاره فتجعل منه جلاداً ربما أبشع من مضطهديه.
هل جربت ـ عزيزي المسلم ـ العنصرية من أبناء بلدك؟
ربما ستضحك في عدم اكتراث، ربما لن تتخيل أن يحدث هذا لك، على الأقل ليس في بلدك. يقولون إن أفضل مميزات يحصل عليها الإنسان المصري إذا كان ذكرًا مصريًا مسلمًا فاتح اللون. وأشدد على اللون لأننا بطبعنا يا عزيزي ـ وأتمنى ألا تكون قد تفاجأت من هذه الحقيقة ـ عنصريون ضد اللون للغاية.
هنا نعود ثانية للسؤال “ما هي العنصرية؟”
في مشهد بديع في فيلم American History X، يعود بنا المخرج في فلاش باك إلى ما أطلق عليه داني “البداية”، مشهد لأسرة أمريكية عادية؛ داني وأمه وأخته وديريك يأكلان بينما الأب على رأس المائدة. موت هذا الأب هو ما أشعل شرارة العنصرية القبيحة في عائلة ديريك وداني، أو أن هذا هو ما أوضحه لنا الفيلم صراحة في النصف الأول. لكن مع اقترابنا من نهاية مقال داني عن تاريخ أمريكا X أو “كيف بدأ العنف في حي فينيسيا بكاليفورنيا، مع إسقاط الأحداث على أخيه الأكبر، ديريك”، تتسع الصورة لنرى كيف نبتت بذرة العنصرية في قلبي داني وديريك، وكيف زرع والدهما الحبيب في ذهنيهما الشك والكراهية من السود. مشهد مثل هذا، يجعل المشاهد يعيد ترتيب أوراقه ومفاهيمه، ويغير رأيه في العنصرية كلياً. أحقاً هي وليدة أحداث ضخمة مثل أحداث تطهير عرقي أو هولوكوست أو مذابح إثنية أو انفجار كنيسة في بلدة أغلبيتها مسلمين؟ أم أنها وليدة موائد الغداء والعشاء؟ وليدة الاجتماعات العائلية حيث يختلط الجد بالهزل، وتكون للسلطة الأبوية والأمومية الكلمة النافذة والنهائية على كل النقاشات؛ على الأقل في طفولة وبدايات مراهقة الأبناء؟ متى تورق بذرة العنصرية، وما الذي يجعلها تنمو وتكبر، وهل من الممكن تجريف التربة التي زرعت فيها تلك البذرة الشيطانية؟ وكيف يتأتى هذا في مجتمع يحفزك على العنصرية بكل شكل من الأشكال؟
هل جرب أحدكم أن يلتبس على الآخرين تحديد هويته الدينية؟
حدث هذا لكثير من المصريين غير المعنونين بالخواتم الدينية من أسماء ورموز وأيقونات. في عالم الفتيات، أخذت الفواصل الدينية تزداد يوماً بعد يوم، في مدرستي استيقظت يوماً على نصف فتيات صفي يرتدين الحجاب. لم يكن للمفاجأة وقعٌ، لكن الكوميديا كانت في الفتيات اللاتي ارتدينه من الأساس. بدت الكثيرات منهن شغوفات بأن يندمجن مع صديقاتهن، بينما قررت بعضهن أن يفعلن هذا حتى يوفقهن الله في الثانوية العامة ويدخلن كليات الصيدلة والطب، جعلني وضعي كفتاة غير محجبة، متأثرة جداً بالثقافة الأجنبية، وصديقة للكثير من المسيحيات أبدو منصهرة معهن، وكنت سعيدة لهذا، وددت لو انصهرت كل طوائف المجتمع مع بعضها البعض، بدا التمييز الديني والنوعي بغيضاً بالنسبة لي، وكنت سعيدة بأن أهرب من قالب من القوالب المجتمعية على قدر ما أستطيع.
لكن هذا وضعني في أكثر من موقف، بعضها كوميدي وآخر مخيف حقيقة.
عندما يظنك البعض منهم، يتحررون من أقنعتهم، يخلع كل امرئ نعليه وطاقم أسنانه، وأحياناً يتعرى من ردائه المجتمعي المزيف. أصابتني عنصرية صديقة مسيحية في مقتل، لم أتخيل مدى كرهها للمسلمين إلا عندما واجهتني به لعدم معرفتها بديني، والغريب أنني عندما واجهتها بحقيقة ديني، صدمتني عندما أخبرتني بسبب كراهيتها للمسلمين، فالقهر الذي تعرضت له على يد شلة من الفتيات المسلمات كان من القسوة بحيث اضطرت بعده للعلاج عند طبيب نفسي.
هذه الفتاة ليست إلا ضحية قهر وقمع ديني بغيض، أدى بها إلى أن تولد طاقة قهرها لكراهية تعميها عن رؤية الفوارق بين البشر، بسبب المجتمع المقولب الذي يضع التفاح كله في سلة واحدة، لم تعد الفتاة ترى سوى المسيحيين والمسلمين، حتى أنها عندما أخبرتها بأنني مسلمة؛ سألتني في عدم تصديق، “هل تمزحين؟ أحقاً أنت مسلمة؟”.
في فيلم American History X يبدو الأب غيوراً من مدرس داني وديريك الأسود المثقف الحاصل على الدكتوراة، بينما هو يرتع في الجهل ويشغل وظيفة رجل مطافي، لا تكفل له سوى مصادقة أمثاله من المواطنين المطحونين الغاضبين. يحول الأب طاقة غضبه نحو ابنه ديريك، ليخبره بأن السود كلهم أغبياء وغير ومثقفين، ولا يهدأ حتى يؤمن ابنه على كلامه في آلية. تذكرت صديقة مسيحية، أخبرتني ذات مرة بأنها لا تعترف بعنصرية الدين، لأنها لا ترى متدينين حقاً إلا في الدير، وأولئك أبعد ما يكونون عن التعصب، بينما المتدينون المتعصبون في الطرقات وفي الأشغال هم مجموعة من الكائنات الحقودة التي تأكلها الغيرة من بعضها البعض، ولإضفاء بعض الشرعية وربما الشاعرية على حقدهم، يستخدمون الدين سلاحاً ضد من يبغضون. عندما رأيت هذا المشهد في الفيلم، تذكرت كلامها وابتسمت. هي نظرية تستحق الوقوف أمامها.
حسن ومرقص
يستمد فيلم “حسن ومرقص” سحره من اسم بطله الزعيم عادل إمام وتعاونه للمرة الأولى مع الفنان العالمي عمر الشريف. ورغم التحفظ على يوسف معاطي كسيناريست في أغلب الأوقات، إلا أنه نجح هنا في تقديم كوميديا راقية ولاذعة، لا ترقى بالطبع في جرأتها للأفلام الأجنبية أو حتى لأفلام مصرية متمردة مثل الإرهابي، والأبواب المغلقة، وبحب السيما، والمهاجر، وغيرها كثير من الأفلام التي كسرت تابوه الدين ممزوجاً بالجنس أو مفرغاً منه تماماً، لكنها ومع هذا ما زالت جريئة.
ربما استمد “حسن ومرقص” جرأته من كسره لتابو الشخصية المسيحية المثالية الساذجة المتمثلة في محمد إمام، أتذكر أن وقت عرض هذا الفيلم، كنت في السنة الدراسية الثالثة بكليتي، وخرج كل أصدقائي المسيحيين باحثين عن الصفحة الرسمية لمحمد عادل إمام على الفيسبوك، وقد كتبوا له يهنئونه على دوره في الفيلم. محمد إمام هنا مثل الشاب المسيحي غير النمطي، والذي استهلكه صناع الدراما عن غير قصد في صورة الشاب المثالي الطيب لدرجة السذاجة والبار بوالديه، الذي لا يخطئ ولا تخرج من فمه العيبة. في “حسن ومرقص” يبدو جرجس شاباً عادياً جداً مثل أي شاب جامعي، طريقته في التعبير عن مشاعره طبيعية، وليست كارتونية مفرطة في المثالية والطيبة، هو أيضاً خفيف الدم، سريع البديهة، ورومانسي دون ابتذال، اشترك في قصة حب مع فتاة مسلمة يظنها مسيحية مثله، فصنع معاطي منهما روميو وجولييت وقتها، ورغم أن الفيلم قد أثار حفيظة الكثير من المسلمين المعتدلين قبل المتشددين، والذين يقفون لجرأة عادل إمام ـ المسلم ـ في كسر تابوه الدين بالمرصاد، إلا أنه لاقى استحسان الكثير من المسيحيين، ولن أقول الجميع، نظراً لكونه صور أسرة مسيحية طبيعية، وصور المسيحيين كقوة طبيعية لها رد فعل وطاقة غضب، على الرغم من تأييد بعض المسيحيين أنفسهم لتصدير صورة خيالية، غير واقعية عن مثاليتهم وطبيعتهم المسالمة.
احتاج فيلم مثل “حسن ومرقص” ربما لكاتب أكثر جرأة من يوسف معاطي، ففكرة تبديل الدين، وخلع نعل الأغلبية أو الأقلية لترتدي نعلاً آخر، قد يكون ضيقاً أو فضفاضاً أكثر من اللازم ليس أمراً سهلاً. بل على العكس، إنه أمر مرعب، مخيف. كلما التبس على أحدهم الأمر؛ سواء من المسلمين أو المسيحيين، وظنوا أنني من المعسكر الآخر، كنت في أعماقي أشعر بالفضول لأعرف ما قد يظهره البعض من خبايا قد لا يسعفني الحظ أن أراها لو كنت أسير متباهية بهويتي الدينية، صانعة منها ساتراً أختبئ وراءه من حقيقتي المجردة من دين أو لون أو جنس.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More